رقم خارج الدائرة...
|
أسعد عزيز محمد
|
حاول الاتصال بالرقم عدة مرات دون جدوى ، فرضت وحدته القاتلة ضغطاً كبيراً على فكره وجسده، فكرمع نفسه ترى هل أخطأت في طلب الرقم؟ هذا الموقف لم يكن جديداً عليه فقد سبق وأن حاول الاتصال بصديق له لكنه وبعد كل محاولة يسمع الجملة المعهودة: - لايسمح لك الاتصال بهذا الرقم! أمعن النظر في الرقم بسرعة..ولم يجد أي خطإ فيه ولكي يقطع الشك باليقين أعاد العملية لكنه سمع نفس الجواب السابق: الرقم الذي طلبته مغلق أوخارج نطاق الخدمة. طارت الأرقام في سماء خياله ، كانت الأرقام الفردية تبحث عن شبيهاتها كي تصبح أرقاما الزوجية ،وإذا صادفت أرقاماً زوجية فستبقى فردية ،الأرقام الفردية عظيمة ، داخل كل فرد هناك أحلام البناء والاختراع لكنه يبقى فرداً عقيماً ،ولايوجد فرد آخر للتمازج ، للتكاثر والتقسيم. كان الرقم المعلق على مشارف المدينة يشبه منصة الإعدام، كان مكوناً من ثلاثة أرقام .. رقمان منها فردي والأخير زوجي ، وقد جرب كل العمليات الرياضيات مع هذه أرقام بدءاً من الجمع والطرح والقسمة والنسبة والتناسب والتصغير وانتهاءاً بالعامل المشترك دون جدوى ،جمع كل مايعلم عن الأرقام والجبر حول هذه الارقام لكنه لم يصل إلى نتيجة.. هنا تذكر كلمات قالها أستاذ الرياضيات يوماً وعلق في أذهانه: - الأرقام لاتكذب، إنها يظهر الحقائق كماهي، كل الحقائق موجودة في ظل الأرقام، ولكي نفهم أسرار معظم الأشياء علينا معرفة الأرقام ،إن الأرقام هي هوية الأشياء والأحداث. - تُرى ماذا كان سيقول شخص غريب لو وقع نظره على هذه الأرقام الثلاثة؟ ربما يتصورفي البداية أن سكان هذه المدينة مولعون بعلم الأرقام والرياضيات وهم بارعون فيها وهذا هوسبب تعليق الرقم في مشارف المدينة، وربما يتراءى له منظرالمدينة كأكاديمية أفلاطون التي علقت على بابها مقولة: - من لايتقن الرياضيات غير مرحب به هنا. وربما يمر بالمدينة خائفاً وخجلاً وهويحاول أن ينأى بنفسه عن مخاوف الأرقام ويبتعد عن الخوض في الرياضيات ، وربما يضع يده على صدره إجلالاًوهوينظر لسكان المدينة.. هزت هذه الأفكارمخيلته ورسم ابتسامة على شفتيه حين تذكروالده الذي أدركه الموت وهولايعرف من الأعداد أكثرمن الرقم خمسين، فكان يقول خمسون وعشرون بدلاً من سبعين! هذا فضلاً عن عدم معرفته بالأرقام الكبيرة مثل المليون والمليار والبليون والترليون. إنساق وراء أفكاره من ألقاب الأرقام ، حيث لقب لفترة من الزمن بلقب هوعبارة عن الرقم وذلك حين انخرط ضمن منظمة سياسية ، لقد نسي الكثير من حوادث تلك الأيام مع مرورالزمن لكنه مايزال يتذكرحين أعطوه رقم ثلاثة والعشرين، وربما كان سبب عدم نسيانه لهذا الرقم هي الإنتكاسات والمآثر التي شاهدها في تلك الفترة حين لقبوه بهذا الرقم قالوا له: _ الرقم السري الخاص بك هو23 - لماذا ؟ - كي تبقى مجهولا، ولأنه ليس بمقدور أحد أن يجدك من بين ملايين الأرقام ، ومع مرور الوقت اكتشفت تلك الحقيقة وهي أن تلك الجملة الوحيدة الصادقة التي سمعها من مرؤسيه الساسيين، لأن لغز الرقم لم يكتشفه أحد لحد الآن حتى بعد نجاح الثورة، بعد نجاح الثورة أصبح ذلك الرقم ملكاَ لشخص آخر وانبرى عدة شهود من المسؤولين ليؤكدوا ملكيته الشخص الجديد للرقم! هذا الرقم منح له في فترة النضال السري ولكن أصبح ملكاً لشخص آخر في النضال العلني. أيقظه صوت رنين هاتفه النقال من انسياقه وراء تلك ألافكار ودون أن يدقق في اسم المتصل كعادته، ضغط على زر الإستقبال قائلاً: - نعم.. من يتكلم؟ وقع على مسامعه صوت رقيق لفتاة وهي تقول: -ربما كنت نائماً ؟ تصور في بادي الأمر أن تكون المكالمة كمكالمات أنصاف الليالي حين تأتيه، لقضاء الوقت والدردشة ، ومعاكسات للفتيات ولايهم عمر المتكلم أوشكله أو مستواه المادي والمعنوي، المهم أن يجد الشخص نديماً من الجنس الآخر كي يستمتع ولو في الخيال من هذه المكالمة ،بعد لحظات شعر أن الصوت ليس غريباً عليه، لكنه لم يستطع معرفته صاحبته بالتحديد لذلك حاول معرفته عبر طرح بعض الأسئلة: - من أين تتكلمين؟ أتاه الجواب بصوت حزين - من هذه الدنيا المحطمة ! هذه الجملة دغدغت جروحه وحثته على المضي في الكلام - معظم بقاع هذه الأرض بل وحتى طبقة الأوزون محطمة، في أية بقعة محطمة أنت؟ - من منطقتنا المحطمة، أريدك لأمر هام،أريد أن أراك. - تفضلي... قولي... ماذا تريدين؟ لكنها أقفلت الهاتف دون أن تعرف نفسها أو تقول ماتريد منه لو تكشف عن الامر الهام... شغل مسجل الاصوات في ذاكرته وأمعن في البحث ولم يجد فيه صوتاً مشابهاً لذلك الصوت السحري، ترى من هي صاحبة ذلك الصوت وماذا تريد منه؟ وووضع في باله فرضية وهي أنه لايعرف ذلك الصوت وأنه لم يكن يهتم بالأصوات في يوم ما حتى يتعرف الآن على صوت غريب. هذه المكالمة الغريبة جعلته يفكر في محاولة الاتصال بها ولكن قبل ان يتصل فكر مع نفسه...اذا ردّت ماذا أقول لها؟ ولم اتصلت؟ لم يفكر في ان السبب هو فقط حبه لسماع صوتها ولكن هذا سبب ليس كافياً ويجب أن يكون هناك سبب مقنع،لذلك بحث داخل نفسه عن سبب مقنع - لم تتصل بها؟ كان يريد ان يقول لها"احبك" كل الاوقات التي عشتها بعيداً عنك كانت جحيماً،لاتحلو الحياة الا معك، طلب الرقم لكن الجواب كان: - الرقم الذي طلبته مغلق أو خارج نطاق الخدمة. أدار بصره صوب التلفاز ولفت نظره الأخبار فرفع صوت جهاز التلفاز: - وصل عدد ضحايا العملية الأرهابية التي وقعت أمس الى 88شهيداً. عادت به ذاكرته الى عام 1988 حين تم فيها دفن 182 الف فراشة وهم أحياء، بعد انتهاء الأخبار تم تقديم برنامج عن المكالمات الغريبة التي تلقاها الناس من فتاة تم قتلها مع شاب قبل أسبوع في وقت أعلنت فيه عائلتا القتيلين براءتهما من عملية القتل، وتمحورت استنتاجات البرنامج حول العملية كالأتي: - الأشخاص الذين استلموا تلك المكالمة هم أناس يعيشون في الخيال وعليه فان تلك المكالمة من صنع خيالهم ولاوجود لها في الواقع. - ان القتيلين كانا اشخاصاً طاهرين وان أرواحهما تدعو الى الثار لهما ومعاقبة الجناة. - ان المشاكل والعقد الموجود حولنا كثيرة الى درجة اننا نود التخلص منها حتى لوكان عن طريق الخيال. - هذا الكلام هراء وهو بعيد عن عاداتنا وتقاليدنا وعن الحقيقة. تبين له ان تلك المكالمة كانت لشخص ميت ولم يعرف أي راي مما سبق يصدق فقد كان لكل راي برهانه ونظرته الخاصة، لكنه كان مؤمناً بان القتل ظاهرة مقيتة ويجب ان يعاقب الجناة مهما كانت ذرائعهم. وفي لحظة الاخيرة لتلك الليلة اتصل بالرقم لكي يقول لها: أحترسي نفسك لأن القتل تحاصرنا، يقتل الناس من أجل الرغبة في القتل، ويقتل الناس بذنب الانسانية ويقتل الأشخاص بذنب الكوردي ويقتل أشخاص بذنب الأنتماء لهذه القومية أوتلك القومية ويقتل أشخاص بذنب الأنتماء لهذا الدين أوذاك وكذلك يقتل أشخاص بذنب تلك المهنة كذلك يقتل أشخاص بذنب الحب ويقتل أشخاص بدون الذنب! اتصل بالرقم والصوت في الطرف أخر جوابه: - الرقم الذي طلبته مغلق أو خارج نطاق الخدمة.
|
|
|
أسعد عزيز محمد-ترجمها من الكردية عرفان صديق (2012-04-26) |
Partager
|
تعليقات:
|
عماد الناصح
/العراق |
2016-03-14 |
رائعة من روائع القاص الكوردي الاستاذ اسعد عزيز وحقا اننا تتلمس في كتاباته معاناة الواقع الذي قرنا ان نعيش فيه فالقصة مفعمة بالاحساس ومليئة بالعبر لمن يريد الاعتبار تحياتي الحارة الى اخي وصديقي الغالي اسعد عزيز.
|
البريد
الإلكتروني : emadalnasıh@gmail.com |
برزان خالد
/العراق |
2013-05-19 |
من المؤسف بأن كثير من القراء في الوطن العربي لآيعرفون هذا القاص الكردي المبدع أو أدباء الأكراد الأخرين بالشكل العام الذين كل كتاباتهم تبعث الأمل بأن الأدب في الوطن العربي والشرق الأوسط لأزال بالخير... وارجوا منكم أن تترجموا كثير من القصص هذا القاص الرائع ولكم جزيل الشكر
|
البريد
الإلكتروني : Barzan_xalid@yahoo.com |
|
أضف
تعليقك :
|
|
الخانات * إجبارية |
|